لم يبق من رمضان الفائت إلا كمثل بارقة الضوء حين يومض فيخفت، ولميبق من أيامه في أيدينا إلا عبقًا أصيلاً، ذكريات طيبة وتأثير على بعض منا مبارك..
ثم ها هو شهر الخير يعود إلينا محملاً بالبشائر.. ورافلاً بالمهابة.. يدعونا أن ننظر في صحائفنا الماضية، فما وجدناه خيراً اتبعناه واقتفينا أثره وأكملنا مسيرته، وما رأيناه خطيئة اجتبناه واستغفرنا منه.. وعزمنا على عدم العود إليه..
وقد قمنا بتتبع آراء بعض الأخوات الكريمات - من خلال استبانة- عما فعلته وما ستقرر فعله إن شاء الله، وذلك من باب التذكير وإيجاد فرصة لمحاسبة النفس، وليكون خيرها حافزاً لكل من قرأها أن يعمل بمثلها، ويتعظ السعيد بأخطاء غيره فيعزم على اجتنابها..
شارك في الاستبانة نساء من فئات عدة، طالبات جامعيات وموظفات وربات منازل.
هل رضيت عن الماضي؟
كان السؤال الأول هو: هل أنت راضية عن نفسك في رمضان الفائت؟ ولماذا؟
وقد تباينت النسب بشكل كبير, فلم تكن راضية إلا مشاركة واحدة فقط بما نسبته 4% أما خيار :"إلى حد ما".. فقد حاز على النسبة 39%، وغير الراضيات بلغن ما قرابته 56% أي ما يجاوز النصف!
والحقيقة أن عدم الرضا عن النفس في العمل الصالح له جانبان، الجانب السيئ هو.. الإشارة إلى عظم التفريط في جنب الله، والاستسلام لكل ما يوهن الصلة بالله وحسن عبادته في هذا الشهر، فكيف يسمح المرء لساعات الشهر الثمينة أن تتطاير من بين كفيه هباءً منثورًا بهذه النسبة الكبيرة؟! إن هذه النسبة لعدم الرضا تشعرنا بأن ثمة فتورًا في الهمم وتقصيرًا في الطاعة، وركونًا إلى الملهيات كبيرًا، فكان الواجب على المرء أن ينظر في الماضي بحزم، ويعقد العزم على الاجتهاد وبذل الوسع في تدارك ما مضى.
ماذا منحك رمضان الماضي؟
وفي سؤال عن الصفات أو الأعمال الطيبة التي اكتسبت في رمضان الفائت، حاز الإحساس بالفقراء وحب الخير والبذل على أعلى مرتبة، وفي ذلك إشارة إلى التكافل الاجتماعي العظيم الذي يبنيه رمضان في نفوس الناس، تلاه في ذلك تعلم الصبر واللين وقوة العزيمة، مما يعني تعلم الصائم للمقاصد العظمى من صيامه، رفعة للروح وتزكية للنفس.
في المرتبة الثالثة، تساوى ختم القرآن لأكثر من مرة مع أداء الصلاة في وقتها، وهذا فيه تقوية لجانب صلة العبد بربه، وانقطاع لعبادته وخشيته والابتهال إليه وغير ذلك من أعمال القلوب السامية.
جاء في المرتبة الرابعة من بركات الشهر الكريم، ترك النظر في التافه المضيع للأعمار من برامج التلفاز، ولا يستهينن أحد بهذه الصفة الحميدة، فرائع أن يدرك المسلم قيمة الوقت خاصة في شهر مضاعفة الأجر، ثم يحرص على اغتنام أوقاته والاستزادة بكل وسيلة من الخير، فإن لم يستطع فيمسك عن الشر فإن ذلك صدقة منه على نفسه، وهذا مكسب عظيم وطيب.
أما تفطير الصائمين في المساجد بتوزيع التمور فاحتل المرتبة الخامسة، ولا يخفى على الجميع ما في ذلك من فضل، فلمن فطر صائمًا مثل أجره لا ينقص من أجر من فطره شيئًا، كما هو معروف.
هناك أعمال تساوت مراتبها، كذكر الله حتى تطلع الشمس، وعدم الذهاب للسوق – وهو أبغض الأماكن إلى الله - من بعضهن، علمًا منها بقدر ساعات رمضان فتحرص على قضاء حوائجها قبله، ومن الأعمال كذلك رقة القلب وسرعة البكاء، والحرص على الوقت والجرأة في النصح، والاستمرار في الصيام بعد رمضان صيامَ تطوع.
ثمة فعل رائع من إحداهن لفت نظري، وهو أنها في رمضان بالذات عزمت على مقاطعة جميع المنتجات الأمريكية أثناء شرائها المواد الغذائية.
ما الخطأ؟!
وفي سؤال عن الأخطاء التي ارتكبتها في رمضان الفائت، وتنوين تلافيها هذا العام، كان أبرز خطأ ذكرته الكثيرات هو تضييع الوقت فيما لا فائدة منه، والتقصير في اغتنام أوقات رمضان الثمينة، وهذه آفة المسلم، فكثير لا ينقصهم معرفة فضائل الأعمال، والحماس لعمل الطاعة، والاعتراف بالتقصير، لكنهم يفشلون في المحافظة على الوقت وتنظيمه والاستفادة منه، وبنعمة بركة الأوقات رفع الله السلف والصالحين، فهذا الحسن البصري يقول: "أدركت أقوامًا كان أحدهم أشح على عمره منه على درهمه".
فعسى أن يكون معرفة الخطأ وسيلة لتداركه في هذا العام، بتنظيم الزمن المبارك.
الخطأ الذي جاء في المرتبة الثانية هو مشاهدة التلفاز والمسلسلات، وكذلك الذهاب إلى السوق كثيراً لشراء لبس العيد مع إمكانية شرائه من قبل رمضان، لكنه التفريط!
أما آفات اللسان التي تجر المرء إلى المهالك، من كثرة الغيبة والكلام فيما لا يفيد، فقد حازت للأسف على أعلى نسبة في التحقيق، مما يجعل العاقل يتساءل بأسى: ما فضل رمضان على غيره إذًا إن لم يكن له من الهيبة والاحترام ما يميزه عن غيره؟! فيفري الجاهل لسانه في الخلق وشؤونهم، فيصوم بطنه وتفطر نفسه على أشنع ما أفطر عليه صائم؟! وإن كان ترك كل آفات اللسان طوال العمر مطلوب!
تلا ذلك.. ضياع الوقت في المطبخ والانشغال بالطعام والإسراف في إعداده في المرتبة الثالثة، ثم بنسبة متساوية في المرتبة الرابعة نجد قلة قراءة القرآن والتقصير في النوافل وضياع الليل الفاضل في السهرات العائلية.
في المرتبة الأخيرة، كان النوم المضطرب الكثير هو المشكلة الرئيسة، فجل النهار في النوم، وكل الليل في سهر فارغ إلى الفجر! وهذا خطأ عظيم يقع فيه كثير من الناس في رمضان، وكأن هذا الشهر ما فرض الصيام فيه إلا لننام في نهاره بدعوى الجوع والتعب، ثم نلهو ونسهر ونجعل الليل معاشًا.. بدعوى.. رمضان كريم!!
ماذا ستفعلين؟!
طرحنا سؤالاً عن الأعمال التي عقدت كل أخت العزم على فعلها هذا العام، وقد اتفقن جميعاً على الرغبة في ختم القرآن أكثر من مرة والإكثار من قراءته مع المحافظة على الأذكار، وتلا ذلك رغبتهن الأكيدة في المحافظة على النوافل كالتراويح والتهجد وصلاة الضحى والرواتب والوتر، ويؤكدن ما عزمن عليه برغبتهن في المشاركة في أعمال خيرية كتوزيع الكتب والأشرطة.
المرتبة الرابعة احتلتها الصدقة كعمل ينوين فعله، تلاها العزم على صلة الرحم ومراجعة حفظ القرآن، وفي الحقيقة، لا يبدو أنّ هناك رغبة قوية وعزمًا جبارًا على إصلاح جميع الأخطاء، إذ إنّ هجر الغيبة وترك الذهاب للسوق وترك مشاهدة التلفاز لم تحصل إلا على نقطة واحدة فقط .. محتلين بذلك المرتبة الأخيرة!
كل هذه الرغبات تظل أماني ما لم يعضد سوقها ويركن عودها إخلاصا لله في العمل، وتنظيمًا للوقت والجهد، والتخطيط قبل الشهر بمدة كافية، وسؤال الله تعالى العون والتوفيق، فيسدد الله الخطى ويستعمل العبد الجاد في عزمه المخلص في نيته، لفعل الطاعة والخير والهدى.
ما الذي يحفزك للخير؟
من إجابات الأخوات، كان إدراك فضل شهر رمضان ومضاعفة الأجر ووجود ليلة القدر هو أكثر ما يحفز للطاعة ، ويبدو أنّ الشريط الإسلامي ما زال يحتفظ بمجده إذ احتل سماعه المرتبة الثانية من المحفزات، فنافس بذلك المحاضرات الدينية.
وفي مرتبة متساوية، جاءت الصحبة الصالحة والإحساس بالأجواء الإيمانية، وأنهما يحققان همة عالية وعزمًا جادًا على العمل الصالح، يدعم ذلك التربية الصالحة والقدوة الحسنة كما في المرتبة التي تليها.
تساوت الصلاة في المسجد مع الإمام وسماع الدعاء، والإنصات للقرآن الكريم مع الإحساس بالسعادة أثناء عمل الطاعة في المرتبة، تلا ذلك سماع أو رؤية برامج الخير التي تعين على الطاعة وقراءة المطويات التي تذكر بالأعمال، كما أشير إلى أهمية المسابقات الثقافية التي تنتشر في رمضان في كل مسجد.
ساعة بين ساعتين..
كلام جميل للحسن البصري ضمن كتاب طويل كتبه إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله، روي في حلية الأولياء ونختم به حديثنا، ففيه إشارة إلى يومين للمرء، أمسه وغده، وأن للموعظة لمسكًا فواحًا ترق به النفوس وتخشع القلوب، يقول:
"لأصفن لك الدنيا ساعة بين ساعتين، ساعة ماضية وساعة آتية، وساعة أنت فيها، فأما الماضية والباقية فليس تجد لراحتهما لذة ولا لبلائهما ألما، وإنما الدنيا ساعة أنت فيها، فخدعتك تلك الساعة عن الجنة وصيرتك إلى النار، وإنما اليوم -إن عقلت- ضيف نزل بك وهو مرتحل عنك، فإن أحسنت نزله وقراه شهد لك وأثنى عليك بذلك وصدق فيك، وإن أسأت ضيافته ولم تحسن قراه جال في عينيك، وهما يومان بمنزلة الأخوين نزل بك أحدهما فأسأت إليه ولم تحسن قراه فيما بينك وبينه، فجاءك الآخر من بعده فقال: إني قد جئتك بعد أخي فإن إحسانك إلي يمحو إساءتك إليه، ويغفر لك ما صنعت، فدونك إذ نزلت بك وجئتك بعد أخي المرتحل عنك، فلقد ظفرت بخلف منه إن عقلت، فدارك ما أقد أضعت، وإن ألحقت الآخر بالأول فما أخلقك أن تهلك بشهادتهما عليك..".